قبل أيام أرسل لي صديقٌ عزيزٌ صورة هذه العمارة من حي “انياري تالي” في دكار، يعرفُ صديقي المرسِل ماذا تعني لي هذه العمارة وأنا الذي اقمتُ فيها وأنا على كتف الزمان غلامُ…
تعود ملكية العمارة لأبناء الشيخة آمنة منت احميّد الديمانية الأبهمية وإخوتهم من الأب قبل أن يتم بيعها لاحقا لأحد رجال الأعمال، وتقع العمارة على شارع الشيخ سيداتي الممتد غربا في اتجاهين حتى ترمينيس ليبرتى 5.
حيث كنت أقيم فيها مع أبناء أحميد الأماجد : أحمد صالح وحافظ ويزورنا بين فترة وأخرى الأخ محمدفال،
تعرّفت فيها عن قرب على أستاذنا أحمد صالح ففي تلك السنة كان في نهاية مشوراه الدراسي في جامعة الشيخ انتا ديوب وكان يحضر ملف الهجرة إلى الولايات المتحدة بسرية تامة وتم له ذلك وما أحسن ما يبلغ المنى الأذكياءُ…
فقد غادر صالح دكار مطلع نوفمبر 1999 متجها إلى نيويورك،
كان لي أحمد صالح نعم الاخ في تلك الفترة، غمرني بكرمه واريحيته وخفة ظله، كان يمازحني ويتندّر علي بأني عندما أصعد إلى “كار رابيد” لابد من ان اخرِجَ ورقة من جيبي كتبت فيها بعض كلمات الولوفية حتى أستطيع التفاهم مع أبرانتي وكذلك مع صاحب البتيك وباقي المحلات الأخرى.. ويضحكه ذلك كثيرا،
في تلك الشقة أقمنا مجالس من حسنات الدهر نتعاطى فيها ما لذ وطاب من محاسن الأدب والثقافة والتاريخ وتدور حولنا زياراتُ رجالٍ من المجتمع كانو بالنسبة لنا ظهيرا اجتماعيا وروحيا في الغربة مثل الشيخ محمد سالم ولد والد والعلامة الداه ولد محمد عالي والأديب الأريب إسلم ولد إميجن رحمهم الله والشيخ الصالح المختار ولد ابيه أطال الله بقاءه..
وفي مجالسنا معهم يُذكرُ الصالحون وتتنزّلُ الرحمات ونرجع إلى الأصول وإذا بنا في إيگيدي وحلق العلم والتربية الروحية كل ذلك ونحن في قلب دكار المنشغل بقطار العولمة وحجز مكان في النظام العالمي الجديد.
مجالسنا في هذه العمارة يصدقُ فيها قول الشاعر:
وكانت في دمشق لنا ليالٍ
سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي
وعنوان المسرة والأماني
مرّة كنت جالسا مع الداه رحمة الله عليه في الشرفة وإذا بجمع كبير من الفتيات حاسرات الرؤوس في مسيرة راجلةٍ فقال لي على الفور: “محمدن هذه امة محمد صلى الله عليه وسلّم: أمة مذنبة ورب غفور” ضربتني هذه العبارة في أعماق الروح وأثرت في تأثيرا بالغا حتى اليوم.
في انياري تالي بدأتُ أعرفُ الفروقَ بين الطوائف والطرق في السنغال، أمامَنا على شارع الشيخ سيداتي يقع مسجد للطائفة المريدية، وعلى بعد خمسمائة متر غربه يقع مسجد “عباد الرحمن” ويتمايز المصلون حسب التوجهات الطائفية في الذهاب إلى المسجد، وغير بعيد جنوبا يقع “جامع المنصور” التيجاني الطريقة، ومن الشرق نسعد بجوار مركز القادرية في دكار خيمة الغوث الأدهم الشيخ سيداتي ولد الشيخ الطالب بوي رحمه الله والذي سُمّيَ الشارع الكبير باسمه في انياري تالي.
مثّلت بالنسبة لي نياري تالي بداية خبرة وتخصص في المجتمع السنغالي الجميل الذي تعرفت على طبقته الوسطى ومجتمعه المدني الراقي من وجهاء وساسة وقضاة وصحافة وكُتاب ومثقفين أكرموني غاية الإكرام وفتحوا لي صدورهم قبل أن يفتحوا أبوابهم بدون تحفظ -ربما يلعب رصيد الأسرة الروحي دورا كبيرا في ذلك- وأعطوني صورة حسنة لا أزال أحتفظ بها عن السنغال.
في العام 1999 من شرفة الشقة الغربية من الطابق الأول وقفت أنظر الموكب المهيب للزعيم عبدالله واد قادما من فرنسا ليشارك في الانتخابات الرئاسية يقال أن مروره أمامنا في انياري لاتزال حينها بقية موكبه في مطار يوف في حشد جماهيري غير مسبوق.
من هذه الشرفة توقّفَ أمامي موكب الشيخ عبدالله چيي الأندري في الحملة الرئاسية عام 2000 ولما رآني واقفا نادى عليّ: اللهُ واحدٌ، اللهُ واحدٌ، اللهُ واحدٌ فأجيبه مع آلاف المناصرين في آن معا: واحدٌ واحدٌ، وقد كان ذلك شعاره آنذاك..
سقى اللهُ أيام انياري تالي وردّ الله لنا أستاذنا أحمد صالح سالما غانما معافى وفي سرور وعافية..
*محمدن ولد عبدالله*
*المدير الناشر لشبكة* *رياح الجنوب* https://www.facebook.com/share/p/15zqekkqf2/